لا شيء يعطي أبعاد تأمل فرنسيس مثل هذا النهر الدفاق من المدائح الذي أنهى به قانون عام 1221. تعتبر هذه الصلاة، نظرا لشموليتها وروحها، من أجمل ما كتبه فقير أسيزي. إنها تنطلق إلى الآب بالابن وفي الروح القدس مديحاً يشمل القصد الإلهي وقدر العالم. فيهما يشترك كلّ من هو في السماء وعلى الأرض. سلك في أسلوبها نهج الصلوات الليتورجية الكبرى:
أيها القدير والقدّوس، أيها العليّ والسيّد،
الآب القدّوس والصالح،
ملك السماء والأرض،
إننا نشكرك من أجل ذاتك،
لأنك بمشيئتك المقدّسة وبابنك الوحيد،
مع الروح القدس،
خلقت كلّ الأشياء الروحية والجسدية،
صنعتنا على صورتك ومثالك،
ووضعتنا في الفردوس.
ونحن بخطيئتنا سقطنا.
إننا نشكرك لأنك
كما خلقتنا بواسطة ابنك،
بالحبّ الحقيقي المقدّس الذي به أحببتنا
جعلته يولد، إلهاً حقاً وإنساناً حقاً
من المجيدة مريم العذراء القدّيسة،
وبصليبه ودمه وموته
أردت أن تفتدينا من عبوديتنا.
نشكرك أيضاً، لأنّ ابنك نفسه سيعود
في مجد عظمته،
ليرسل إلى النار الأبدية أولئك الذين رفضوا
أن يتوبوا ويتعرّفوا عليك،
ليقول لكلّ الذين عرفوك،
عبدوك وخدموك بقلب متجدّد :
" تعالوا أيها المباركون رثوا الملك
المعدّ لكم منذ إنشاء العالم.
وبما أننا كلّنا مساكين وخطأة،
ولا نستحق أن نلفظ اسمك،
فإننا نصلّي ونطلب منك ضارعين
بوساطة ربّنا يسوع المسيح، ابنك الحبيب
الذي عنه رضيت مع الروح القدس المعزّي
حتى يشكرك هو من أجل كلّ شيء
بحسب ما يرضيك ويرضيه،
هو الكافي لك في كلّ شيء
وبه صنعت لنا كلّ الخير. هللويا ..."
هذا هو الجزء الأول من صلاة الشكر الكبيرة. ومديح الله غايتها:" بسببك أنت" الإله الموحي عن ذاته في صنائعه. في الخلق أولاً، وحصرا في خلق الإنسان على صورته.
إنّ الإشارة الحذرة إلى الخطيئة والسقوط، تمهّد لتقديم صلاة الشكر. فالقصد الإلهي لا يتوقف عند السقوط: إنّه محمول بحبّ أقوى من الخطيئة. لذا لا يرفع فرنسيس صلاة شكر من أجل التجسّد. فالحبّ الذي خلقنا هو نفسه، الذي خلّصنا بالابن في تجسّده.
وأخيرا يستبق فرنسيس انتهاء الأزمنة، ويرفع لله صلاة شكر من أجل عودة السيد المسيح المجيدة التي سيختم بها مصير العالم والإنسانية وذلك بإدخال الذين قبلوه وتبعوه، في الفرحة الكبرى فرحة الملكوت.
إنّ فرنسيس، إذ وصل هذا الحدّ من التأمل في كلّ ما فعله الله من أجلنا، وما فعله لما خلق العالم، وبدا وكأنّه أصيب بدوار. إنه عالم بكلّ ما يفصله عن الله، ويعترف بأنّه لا يستحقّ أن يذكر اسمه. لذلك يوجّه لله الآب هذا الدعاء: " ليقدّم لك المسيح، ابنك الحبيب والذي عنه رضيت، مع روحك القدّوس المعزّي، ليقدّم كلّ الحمد من أجل ..."
إنّ هذا التضرّع وهو في صميم شكره يظهر لنا فرنسيس في كامل علاقته مع الله، يكشف لنا المعنى الحقيقي لفقره. به نرى أنّ فقير أسيزي هو خير مقتد بالسيد المسيح، نرى التلميذ الذي حرص على اقتفاء أثر المعلّم عن كثب. ما ذكر ليس إلا نظرة ألقيت وبقيت بعيدة عن خبرة فرنسيس الإنجيلية. أمام عظمة محبّة الله، وقد أوحى بها السيد المسيح، يكتشف فرنسيس مقدار فقره: يرفض منافسة مثل هذا الحبّ ويعترف بانهزامه: إنّه خاطئ بائس فحسب. بالتالي لن يخلص أبداً إلا بالنعمة.
سرّه الفقر ولم يحطّمه، هو الفقير إلى الله. السيد المسيح وحده يكفي الآب في كلّ شيء. الاكتفاء بالابن هو كلّ ثروتنا، كلّ خلاصنا. إننا لا نستحقّ أن نذكر اسم الله وأن نحبّه بإجلال، لكننا نستطيع أن نقدّم له الحبّ الوحيد اللائق به وبحسب عطائه: الحبّ الذي شهد به الابن الوحيد لله الآب وباسمنا جميعاً.
هذا هو سرّ سلام الفقير الصغير وفرحه. سلام وفرح يعبّر عنهما فرنسيس هنا بكلمة " هللويا! نعم! هللويا!" مع الجموع الغفيرة من المخلّصين، مع قدّيسي الماضي وقدّيسي الحاضر ومن سيقدّسون أولا مع الطوباوية مريم العذراء الأم المجيدة. ( يتبع)
|