يقول القديس بولس: " إنّ الروح القدس يعرف كلّ شيء حتى أعماق الله." اختبر فرنسيس ذلك في حياته. قد يصعب علينا فهم ماهية التكريم الذي خصّ به الفقر إن لم ندرك، باستنارة الروح، شيئاً من أعماق الله فيه.
انّه لمن المستحيل أن يكون فرنسيس قد التزم الفقر بمثل هذا الشغف حتى اعتبره خطيبة له، لا بل زوجة، وأعطاه لقب السيدة " فاقة" أي الفقر، متأثرا فقط بقصص الفروسية التي أشرقت شبابه. ومن المستحيل أيضا أن يعطي فرنسيس الفقر هذه المكانة الوحيدة الخاصة بالله، إن لم يكن الفقر بالنسبة إليه هو الله نفسه.
لعلّ هذا الكلام يحتاج إلى توضيح: فقر المسيح الذي يتأمل فرنسيس من خلاله في تجرّد ابن الله العلي، يلقي ضوءاً قويّا على حياة الله الخاصة. ضوء يجعلنا نستشفّ بأنّ حياته كلّها هي نكران للذات وعطاء كامل، أو بالأحرى هي ملء العطاء... هذا النكران وهذا العطاء هما في صميم الثالوث الأقدس.
إن الله وأبا سيدنا يسوع المسيح ليس إلها وحيدا، متجها إلى ذاته ومعيدا كلّ شيء إليها. منذ الأزل، هناك حياة تتواصل وتعطي ذاتها. والذات الإلهية هي ذات معطاء. كلّ أقنوم من الثالوث الأقدس، إذ لا ينطوي على ذاته ولا يمتلك بحرص الملء الإلهي، فانه لا حياة له إلا في التواصل. أي في العطاء الذي يبذله للآخرين من هذا الملء الوحيد. وسرّ الله الثالوث، هو سرّ عدم التملّك، هو سرّ الفقر الذي يُبعد كلّ تملّك أناني وكلّ تمركز على الذات الإلهية.
قمّة التأمل عند فرنسيس قد تكون في هذه الرؤيا المجيدة للثالوث الأقدس:
" أيها الربّ السيّد، أنت ثلاثة وأنت أحد،
أنت الخير، أنت الخير المطلق، أنت الخير الأسمى.
أنت الرّب الإله، الحيّ والحقّ.
أنت الحبّ وأنت المحبّة ..."
حدس خصب
أدرك فرنسيس، مستنيرا بالروح القدس، وجود علاقة جوهرية بين المحبّة والفقر. علاقة يقصد بها الحدس العميق. لنتوقف عند هذا الحدس لأنّه من صميم تأمله.
قال أفلاطون: الحب ابن الفقر. وباستطاعة فرنسيس أن يعتمد نفس المقولة ولكن بمعنى مختلف اختلافا كلّيا ومطلقا، ودون شكّ، بمزيد من الحقيقة والعمق. يرى الفيلسوف اليوناني أنّ الحب يولد من نقصان: أي أنه في جوهره رغبة. أما فرنسيس فإنه يرى أن الحب يولد من " عدم استملاك الذات". إنّه عطاء من حيث الجوهر. إنّه الملء الذي يُعطي ذاته. من يحب لا يحتفظ بشيء لنفسه، إنّه لا يملك ذاته، لذلك لا يمتلك الآخر.
التخلّي عن التملّك في الحب. هذا هو سرّ المحبة في حقيقتها الإلهية. وقد عبّر فرنسيس عن ذلك بعبارة قالها لإخوته جاء فيها:" لا تتركوا لكم شيئا من ذواتكم حتى يستقبلكم كاملين من أعطاكم ذاته كاملة".
هذا هو الفقر الذي نعيشه يوما بعد يوم، في علاقاتنا البشرية. إنّه يستوحي من حياة الثالوث، ويجعلنا متّحدين بهذه الحياة. إنّه يؤسس الأخوّة. ( يتبع )
|