لم يكتف فرنسيس بحثّ الإخوة على عبادة الله، بل كان لهم مثالا حيّا. غالبا ما كان يوقف تنقلاته الرسولية ليحبس نفسه في عزلة، يكون الله فيها محور اهتمامه، وكأنّ الغوص فيه حاجة تلحّ عليه.
يقول القدّيس " بونافنتورا": " اختبر فرنسيس في تأملاته الحضور المرجو للروح القدس، معطي النفوس المتمرّسة بالصلاة بقدر ابتعادها عن العالم. انه طلبا للعزلة والصلاة يرتاد الأماكن المقفرة أو الكنائس المهملة".
الأماكن العالية تجتذبه بشكل خاص... يمضي إليها مع اثنين أو ثلاثة من الإخوة. عند وصولهم الجبل، لا يتوقف فرنسيس ليتأمل الطبيعة الخلابة بل ينزل إلى مغارة، إلى تجويف في صخرة كان عشّه المفضّل، وهناك يستسلم للصلاة..." لم تكن صلاته سريعة، سطحية أو عديمة الصبر، بل صلاة يغرق فيها زمنا، يغرق بعمقها فيغلفه، نظرا لشدّة تواضعه، حبور عظيم. كان أذا ابتدأ صلاته مساءً، لا ينتهي منها إلا في صبيحة اليوم التالي. " لم يكن رجل صلاة، بل صلاة أصبحت رجلا". أسابيع طويلة وأحيانا شهورا كاملة يمضيها في المناسك متوجها نحو الله ومستسلما لروحه القدوس.
طريق الإنجيل
لم تتمسك التوحدات الكبرى والمناسك بفرنسيس إلى الأبد. كان روح الرب يعيده إلى البشر على مسالك الإنجيل. يرى فرنسيس أن حياة الوحدة مع الله لا تنفصل عن الحياة الإنجيلية على خطى السيد المسيح. الربّ الإله نفسه، قاده لينطلق مقتفيا آثار الابن.
أدرك الفقير الصغير وجود صلة وثيقة بين تواضع الممارسة الإنجيلية والاتحاد بالله. وهذا ما يُستنبط من الصلاة التي يرفعها إلى الله لأجله ولأجل إخوته في نهاية رسالته إلى الرهبنة. وقد جاء فيها:
" أيها الإله القدير والربّ الصالح
إننا بذواتنا لسنا إلا فقراً.
أما أنت – ولأجلك أنت- أعطنا
أن نفعل ما تريد أن نفعله
وأن نطلب ما يرضيك،
حتى إذا تنقينا داخليا، استنرنا وأضرمنا
بنار روحك القدوس،
نسير على خطى ابنك الحبيب
وبنعمتك فقط نصل إليك أيها العليّ،
أنت يا من تحيا وتملكك ممجّدا
في الثالوث الكامل والوحدة المتواضعة،
إلها قويا إلى دهر الداهرين."
توجز هذه الصلاة، عقيدة القديس فرنسيس الروحية. انه بفعل الروح القدس الذي يطهره، يضيئه ويلهبه، يلتزم بالسير على خطى الابن الحبيب ويصل إلى الوحدة مع الآب. حياة الصلاة في رأيه، هي حركة النفس التي تتأثر بروح الرب وتسير مع المسيح، متّحدة به ثمّ تدخل في وحدة الثالوث الأقدس.
التوبة الإنجيلية والخبرة الصوفية تذوبان معا بفعل الروح القدس. كتب فرنسيس متحدّثا عن الذين يعيشون بحسب روح التطويبات الإنجيلية في الصبر والتواضع والخدمة المتبادلة: " كلّ من يتصرّفون كذلك ويثبتون الى النهاية، يحلّ عليهم روح الربّ ويجعل سكناه بينهم، ويدعون أبناء الآب السماوي...."
إن الروح القدس إذ يعطينا أن نسير على خطى الربّ يسوع ونكتشفه من الداخل، يقودنا إلى معرفة الله الآب. ( يتبع ) |