لا يجوز الاعتقاد بأنّ حياة فرنسيس كانت كلّها غناء وانخطاف بالروح. فالآلام الجسدية والمعنوية لم توفّر عليه.
فقر السماء
أصيب فرنسيس أثناء سفره إلى الشرق الأوسط، برمد في عينيه تركه شبه أعمى. وألمّت به أمراض أخرى لحقت بالداء الأول. كما حدث انشقاق داخل الرهبانية لأسباب تتعلّق بإدارتها العامّة... انّه مريض وفريسة لاضطراب روحي... انسحب مع بعض الإخوة الأوفياء إلى مكان قفر اختلى فيه.
انّه يعاني من شقاء داخلي عميق، شقاء لم يميّز من خلاله ما ينتظره الله منه. لقد أصبحت صلاته صراخ فقير في الظلام.
كم من مرّة رفع إلى الله نداء المزمور 142:
بصوتي إلى الربّ أصرخ،
بصوتي إلى الربّ أتضرّع،
أسكب أمامه تضرّعي
وأكشف أمامه عن ضيقي،
أصبحت غريبا بين إخوتي...
الآلام مع المسيح
أنشأ فرنسيس لنفسه صلاة فرض مؤلفة من مزامير مختلفة، يقرؤها كلّ يوم إضافة إلى الفرض القانوني الكبير وأطلق عليه اسم فرض الآلام. ومع أنّ هذا النص مؤلف بكامله من آيات مقتبسة من مزامير المراثي، فانه يعتبر نصا حقيقيا وأصيلا، به نلج إلى نفس فرنسيس.
انه إذ غرق في الشدّة والضيق، تبنّى صلاة " الفقراء إلى الله". لقد رأى بأن الفقير الحقيقي هو السيّد المسيح في آلامه. ها هو يتّحد بالربّ يسوع مع الابن المضطهد والمهان:
ارحمني يا الله، ارحمني.
إليك تركن نفسي.
ألتجئ إلى ظلّ جناحيك مهما طالت البلية.
إني اصرخ إلى الله، الهي القدّوس والعلي،
إلى الله الذي صنع لي أمورا كثيرة.
يكشف هذا الفرض رؤية فرنسيس لآلام السيد المسيح وكيف عاش آلامه متّحدا بآلام الربّ. إنّ المزامير إذ تعبّر عن ألم نفسي شديد، فهي شهادة لعتمته الروحية، شهادة لعلاقته بالربّ يسوع. يبدو فرنسيس في هذا النص أكثر من أي نص آخر من كتاباته، متّجها مباشرة إلى السيد المسيح، متّحدا به، ومعه متّحدا بالآب.
أول ما يلفت الانتباه هو تأكيد فرنسيس على إهمال الأصدقاء وخيانتهم. انه يتوقف عند هذه الظاهرة من الآلام، أكثر من توقفه عند الاهانات والتعذيب الجسدي. لقد مرّ بالخذلان وعاش هذه الخبرة المريرة:
أصدقائي والمقرّبين مني ابتعدوا،
سمحت لهم بالبقاء بعيدا عنّي
وأن يهزؤوا بي.
فتّشت حولي عن انسان قريب مني
في ساعة الهول هذه لم أجد أحدا
فتّشت عمّن يقوّيني. لم أجد أحدا.
سمة أخرى خاصة بفرض الآلام : لم تستخلص منه أية لعنة بل ويقرأ فيه: " لقد استبدلوا محبّتي وقالوا فيّ سوءا. أما أنا فكنت أصلّي".
أخيرا نتوقف عند نقطة مميزة فيه وهو الدعاء إلى الآب. دعاء يتكرّر وينضح حنانا وثقة:
أيها الآب القدّوس، ملك السماء والأرض
لا تبتعد عنّي... إني أصرخ إليك
أيها الآب العليّ القدّوس
إليك يا من انعم وأجزل...
وذات يوم هدأت العاصفة في قلب فرنسيس. لقد فهم أنّ الربّ ينتظر منه أن يسلمه الرهبانية تسليما كاملا. أن يضعها بين يديه بمنتهى الفقر. قبل فرنسيس أن يتخلّى كلّيا عن عمله وألقى همّه في الربّ. مستقبل الرهبنة لم يعد بيده بل بيد الربّ. عند هذا العمق النهائي أدرك فرنسيس مفهوم عدم التملك حتى في المحبة. وفي فقر المساء، سطع نجم كبير في قلبه. لقد حلّ فيه السلام ومع السلام استعاد فرنسيس غناءه:
لقد أناموني في غبار الموت...
نمت ولكنّي قمت من الموت...
أيها الآب القدّوس، أنت أمسكتني باليد اليمنى، واستقبلتني في مجدك. ما مكافأتي في السماء الاك؟
ومن بغيتي على الأرض سواك؟ |