( أطلب الصور )
منذ حوالي أربعة أشهر، تركت أرض الشرق منطلقة إلى البلاد الإفريقية، إلى إقليم موريتانيا/ السنغال، تتميما لإرادة الله من خلال الرهبنة، فحططت رحالي في داكار.
إن الإرسال يتطلّب تجذرا في أرض جديدة، في مناخ، ثقافات، مأكولات مختلفة وأحيانا غريبة عنّا... والتجذر هذا يسألنا صبرا كبيرا وانفتاحا أكبر على كلّ اختلاف ليغني حياتنا من مواهب الآخرين. انّه يقوم على تخلّ وانسلاخ في سبيل تجسّ آخر، يرتكز في طيّاته على تجسّد المسيح، ابن الله، في أرضنا وطبيعتنا البشرية.
انطلقت وقد وجدت أن الربّ، كما في عادته أن يكون الأول، قد سبقني إلى بلاد رسالتي الجديدة: انّه استقبلني بمحبّة هؤلاء الناس لي كما أنا، بكلّ اختلافاتي...
وكان من حتميات هذا التجسّد، اكتشاف جماعاتنا ورسالاتنا في الإقليم. فوجدت، أول ما وجدت، حقيقة ما قاله يسوع في يو 12/7 : " أما الفقراء فهم عندكم دائما". ففي أرضنا، كما في البعيد، الفقراء كثيرون، يختلفون فقط في درجات فقرهم وطريقة عيشه.
وكانت بداية الاكتشافات في موريتانيا حيث للرهبنة بيتين للرسالة:
" توفونده " وهي قرية حدودية مع السنغال، حيث لا ماء، لا كهرباء، لا طرقات... وبين كلّ هذه ال " لا "، هناك " نعم " تتردّد منذ 25 سنة لحضور بين شعب يختلف عنّا كلّ الاختلاف! تخدم الراهبات اليوم في المجال الصحّي ( أمومة وتمريض) وفي المجال الثقافي الاجتماعي ( حضانة ومكتبة ودروس تقوية ).
وقد نمت هذه " النعم"، فتمّ منذ 6 سنوات افتتاح بيت آخر في مدينة " كهيدي" التي تئن من فقرها، رغم أنها مدينة. هنا تعمل الراهبات في المجال الصحّي أيضا ( أمومة ومكافحة سوء التغذية)، والمجال الاجتماعي ( تنمية المرأة)، والثقافي ( حضانة).
على الصعيد الإنساني، العمل كثير: فالحاجة تصرخ، والعطاء يئن، التضامن ينادي... "ومن له أذنان سامعتان فليسمع..."
بعد شهر عدت إلى السنغال، وبدأت جولتي من داكار. هنا للرهبنة حضانة تعتني ب 80 طفلا، أيتام الأم منذ ولادتهم أو متروكين لا أهل لهم. تتراوح أعمارهم بين أسبوعين وسنة ونصف السنة. تشمل رعايتهم المأكل والملبس، الطبابة والحفاظ على العلاقة مع العائلة أو إيجاد أهل لمن لا أهل لهم.
كما لدينا أيضا بيتا للطالبات، يضم 47 صبية قروية أتين ليتعلّمن مهنة تدبير المنزل من طبخ وتنظيف واهتمام بالأطفال...دون أن ننسى تعليمهنّ الإصغاء إلى صوت الربّ في حياتهنّ في القدّاس والصلاة.
وسافرت بعدها الى القرى الريفية النائية. فالحياة هناك صعبة جدا. فالناس يعيشون في أكواخ، يأكلون نفس الطعام تقريبا كلّ أيام حياتهم... ويعانون من غياب الطرقات والكهرباء والماء ( إلا من آبار تشحّ سريعا وتستعمل للشرب والاغتسال).
تعمل الراهبات في المجال الاجتماعي ( تنمية المرأة)، والمجال الصحّي في مستوصفات ثابتة وأخرى متنقلة. تضع الراهبة في سيارتها كلّ ما يلزمها من أدوات وأدوية وتدور... حيث قاعة الانتظار، ظلّ شجرة، وقاعة المعاينة خيمة لا يغلق بابها للحاجة إلى النور!
ولدينا بيوت نستقبل فيها فتيات يعانين من ظروف عائلية صعبة. نساعدهنّ على متابعة دروسهنّ الابتدائية والتكميلية. وهنا تعمل الراهبات أيضا في المجال الرعوي لدعم الوجود المسيحي في هذه القرى.
الشعب محبّ، مستقبل، قنوع بما قسمه الله له في حياة يومية قاسية، آملين أياما أفضل لأولادهم. " الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون، فاسألوا ربّ الحصاد أن يرسل عملة لحصاده ( لو 10/2).
في هذه الجولة أدركت حقيقة عيشنا في عالم استهلاكي مثير، لا يردع رغباتنا أي شيء، وليس ببعيد منّا يعيش أناس أو شعوب، تئن بصمت من غياب أدنى ضروريات الحياة الإنسانية الكريمة.
إنّ عيشهم يساءل عيشنا بطريقة صارخة وفاضحة، ويفتح عيوننا لنرى فائض بركات الله علينا. فلا نكفنّ عن شكره وحمده، بل لنكفّ عن التذمر والتوق المستمر إلى ما يشبع شهواتنا وكبريائنا وطمعنا.
إنّ فلس الأرملة حقيقة تمّت منذ أكثر من 2000 سنة، والرسالات المتعددة هي حقيقة اليوم لتقول لنا أنّ التضامن لا وطن له، ولا زمن ولا عمر... إنّه وليد المحبّة الأخوية التي تتخطى الحدود والمسافات والجنسيات، لتعانق كلّ الأزمنة والبلاد والأعراق وتقود بشريتنا إلى عالم أفضل.
فالشكر لله الذي يعلّمنا العطاء في مدرسة حبّه اليومية في ذبيحة القدّاس... له المجد إلى الأبد.
الأخت نوال باخوس ف.م.م
داكار - السنغال
|