كي نفهم أهمية ما يحمله "الروح القدس" إلى البشر في يوم العنصرة، لا بدّ لنا من أن ندرك عظم بلبلة العالم: والحقيقة أنّ العالم يبدو لنا في حماقة وتشويش، لا وحدة فيه بين صورته ومعناه. انه عالم متكسّر ومبعثر. وفي الكتاب المقدّس صورة توضّح أسباب بلبلة العالم من جذورها؛ وهي قصة برج بابل
( تكوين، 11 )
" وكانت الأرض كلّها لغة واحدة وكلاما واحداً..." وكان البشر يجولون في الأرض باستمرار طلبا لغذائهم، إلى أن وصلوا إلى أرض شنعار من بلاد الرافدين ( حاليا في العراق )، إلى بقعة غنية بثرواتها الطبيعية، بساتين نخيل عظيمة على ضفاف المياه، ممّا يضمن لهم بحبوحة للعيش؛ وما لبثوا أن صنعوا الآجر من التراب والماء وحرارة الشمس: " تعالوا نصنع لبنا وننضجه طبخا" أو لنجفّفه تحت الشمس؛ وكذلك وفّر لهم المكان مادة لصنع الطين. ففكّروا في تشييد أبنية جميلة، صارت مدينة جميلة: هي بابل. وكان سكان بابل يتمتّعون بمستوى ثقافي عالٍ ويزدهون بمعارفهم التقنية. وكانوا فخورين بعلومهم، واثقين من أنفسهم ثقة جعلتهم يظنون أنّ باستطاعتهم الوصول إلى السماء. فباشروا في بناء برج يخترق رأسه السماء"... وقالوا لنقم لنا اسماً كذلك" كي ننال سلطانا إلهيا يسمح لنا بأن لا نتبدّد على وجه الأرض كلّها". وظنّوا أيضا أنّهم ليسوا بحاجة إلى اله، بل إنهم أقوياء يضاهون الله قدرة. كانوا يملكون " العلم والمعرفة"، وقد أحلوا اعتزازهم بأنفسهم محلّ الاستعانة بالله.
وضحك الله: وقال الربّ هوذا هم شعبٌ واحد ولجميعهم لغةٌ واحدةٌ وهذا ما أخذوا يفعلونه. والآن لا يكفّون عمّا همّوا به حتى يصنعوه. هلمّ نهبط ونبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض. فكفّ الرجال عن بناء المدينة. وبدّدهم الربّ من هناك على وجه الأرض كلّها"؛ ولذلك سميّت المدينة بابل " لأنّ الربّ هناك بلبل لغة الأرض كلّها. ومن هناك شتّتهم على كلّ وجهها".
هكذا تشتّت البشر في أرجاء الأرض. وانفصلوا بعضهم عن بعض وفقدوا التفاهم فيما بينهم. وتضارب الناس وتفرّقوا إلى أجناس وأمم وطبقات اجتماعية وأيديولوجيات يبغض بعضها البعض الآخر، وتتحارب وتتقاتل. حتى أنّه في الأسرة الواحدة لم يعد من تواصل: بل الرجال والنساء والأهل والأولاد غالبا ما يشعرون بأنّ حاجزا ما يفصل بينهم، فينكفئ كلٌّ في قفص أنانيته، قائلا في ذاته: " ليس هناك من يفهمني". ثمّ تأتي الكحول والمخدرات والفجور والفسق وسواها من الوسائل الاصطناعية فتستولي عليه ظناً منه أنّها تخرجه من عزلته وتهدم جدار سجنه. لكن يا للجهود العابثة التي لا تؤدي إلا إلى ما هو أسوأ وما هو أدهى.
إن دولاب المجتمع قد فقد قلبه فتوقف عن الدوران. وأصاب الخلل المجتمع كلّه وضعضعه ولم يبق شيء على الحال الصحيح. والحقيقة أنّه من دون " خالق " المجتمع والكون يفقد المجتمع والكون كلّ وحدة ومعنى. لقد هشّم الكبرياء بابل وبعثرها، ومعها تهشّمت وحدة البشر وقُضي على التفاهم بين الناس حتّى أنّ الخليقة كلّها إنما هي أمست بيئة ملوّثة بشطط الإنسان الساقط.
هكذا ابتعد الإنسان عن الله، لكنّ الله لم يترك خليقته بل كشف للإنسان جميع عواقب كبريائه وأنانيته، وعمد إلى إعادة خلق العالم الساقط، وباشر خلقاً جديدا. وقد تمّ ذلك، على مرحلتين:
1. أرسل ابنه متجسّدا، حاملا الطبيعة الإنسانية برمّتها. فسمّر ابن الله على الصليب عيوب الإنسان العتيق، وبعث من جديد الطبيعة البشرية الساقطة. وارتفع صاعدا إلى السماء، خالقاً إنساناً جديداً، هو آدم الجديد، يسوع المسيح، الإله والإنسان معاً.
2. حتى يستطيع كلّ واحد منّا ويستطيع جميع البشر معا، التطعّم على " الإنسان الجديد"، ونصل بأجمعنا إلى أن نصير هذا الإنسان الراشد ونبلغ القامة التي توافق كمال المسيح" ( أفسس13,4) أرسل إلينا روحه القدّوس: وهذه هي " العنصرة"، هذا هو حلول الروح القدس.
|