"قال المسيح عند دخوله العالم " هانذا آتٍ ، اللهم لأعمل مشيئتك " (عبرانيين 10/5 و7)
"إن الروح القدس سينزل عليك وقدرة العلي تظللك ـ، لذلك يكون المولود قدوساً وابن العلي يدعى"
" أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك ! " لوقا 1/35، 38
"الكلمة صار بشراً فسكن بيننا " يو 1/14
كيف يعاش تخلي المسيح ؟ إنني لست كفؤة بأن أقيـّم فأقول : " يعاش بطريقة جيدة ، أو لا بأس ، أو بطريقة سيئة "، ولست أيضاً مختصّة للتكلم عن الطرق العديدة التي بها تجسد الراهبات الفرنسيسكانيات مرسلات مريم عيش هذا التخلي في المناطق المختلفة وفي ذهنيات وثقافات العالم، لكنني سأحاول أن أستخلص بعض معاني هذا التخلي ، وكيف هو نبع الديناميكية الروحية في حياتنا ورسالتنا ، وإنني واعية بأن ما سأقوله ليس بكاملاً إنما هي بعض المقترحات البسيطة بغاية التعمـّق الى حدّ ما .
1- أولاً سأذكّر بأكتشاف ماري دولاباسيون التدريجي لموهبتنا الروحية ، المتمحورة على التجسد والتخلي ، إلى يوم سلمته لنا ، في أخر حياتها " كعنصرة ثالثة".
2- وذلك سيقودنا للتعمق قليلاً بنص العنصرة (والعنصرات) في كتاب أعمال الرسل.
3- ثم سنحاول أن نرى إذاً ما كان من تقارب ما بين هذا النص والدعوة لعيش اليوم في خط العنصرة، الأتحاد بتخلي المسيح.
1- إكتشاف الموهبة الروحية تدريجيا .
الرهبنة، في الحقبة الأولى من وجودها (1877-1885)، وهي في الكنيسة مكرسة للرسالة العالمية ، ترتكز على:
الإتحاد ، على طريقة مريم " أمة الرب" ، بـ " الهانذا" التي عاشها الكلمة ، إذا تجسد بقدرة الروح القدس لكي يخدم ويتمم مشروع الآب : جمع " أبناءه المشتتين " في الحقيقة والمحبة .
فالهدف الرسولي للرهبنة الجديدة ، " المكمـّلة رسالة مريم" هو أن تساهم من جهتها ، بتجميع "عائلة الله " هذه ، إذ تبدأ هي ذاتها بعيشه :
طريقتها الخاصة بالشهادة ، ستكون كالخميرة في العجين ، الحياة الأخوية في جماعات تضم أخوات من جنسيات مختلفة ومن ثقافات مختلفة؛ العالم بأسره سيكون وطنها ، والفقراء والصغار سيكونون المفضلون لها، والمحبة تكون سياستها ، وعليها أن لا تكلّ من بناء الجسور وإنشاء التواصلات .
وغذاء حياتها ، ستكون الكلمة ، المتأمل بها ، المسجود لها والمتذوقة في الإفخارستية.
وفي نور المسيح ، الذي مات وقام بقوة الروح القدس ، ستستقي القوة لكل التخلـّيات والجهاد والآلام المرتبطة برسالتها.
وبعد مصاعب عديدة ، أنتهت الحقبة الأولى التأسيسية بملء التبني الفرنسيسكاني ، والموافقة على فرائض رهبنة "الفرنسيسكانيات مرسلات مريم " ، التي أصبحت ذات امتياز بابوي . وطريق فرنسيس الإنجيلي هي الماوية التي تغذيها.
ستصبح الرهبنة منذ ذلك الحين حرة كي تنمو ، مجيبة لطلبات الكنيسة للرسالة.
معتمدة على رفيقاتها القديمات وعلى بعض الراهبات من الجيل الجديد ، ستقوم ماري دولا باسيون بتنظيم الرهبنة وبتنشئة المسؤولات العتيدات. وعلى حسب الأحداث ، التي يومئ من خلالها الله لها، وبفضل التبادل الأخوي في المجامع المتتالية ، استمرت دون توقف في تعميق فهمها للروحانية، ولمعناها ولتطبيقاتها العملية.
في نهاية حياتها ، في رسالة تعتبر كـوصية ، (2/2/1899) ، تجمع رسالة الرهبنة في تعبير مختصر ، كررته مثل اللازمة :
" وأنا أصلي ، تأثرت بهذه الصلاة : " يا الله ، تلطف وانمي فينا ، نعمة الإنجيل ، بكل غناها " (في عيد التطهير – تقدمة يسوع للهيكل 2 / 2)
دعوتنا كلها هي بذلك :
... علينا أن نكون ممتلئات من نعمة الإنجيل ، بكل غناها .
حينئذ سنحقق سبب وجودنا كرهبنة.
بعد الصعود ، أعطى الروح القدس ذاته للأرض ، نازلاً على مريم النقية وعلى الرسل. فكان خلق جديد للعالم بالعنصرة . أصبح الرسل قادرين أن يعلموا العالم " نعمة الإنجيل بكل غناها" .
في القرن الثالث عشر ، يتلقى بدوره أبونا السيرافيمي ، وبحماية سيدة الملائكة ، رسالة تعليم الأرض"نعمة الإنجيل ، بكل غناها. والآن ، في آخر قرن التي حبل بها بلا دنس ، ولد الله في الشرق الفرنسيسكانيات مرسلات مريم (...) . فنحن أيضاَ :
مدعوات لنشر ، بحسب فرائضنا " نعمة الإنجيل بكل غناها"
إنما من أجل ذلك ، علينا أن ننمـّيها فينا ، أن نقتـنـيها . لتصبح هذه الفكرة موضوع تأملاتنا الأعتيادي ، وموضوع بحثنا المستمر لنا وللنفوس الموكلة لنا.
ترى ماري دولا باسيون ثلاث عنصرات (مع الأخذ بعين الأعتبار التفاوت بالنسب ) ، أو انسكابات للروح القدس ، المرسل من عند الآب من المسيح القائم من الموت ، لجماعة صغيرة ، جماعة تلاميذ شهود ، مجتمعين مع مريم ، بانتظار الهبة الموعود بها. صحيح أن الروحانيات الأخرى والمواهب الروحية كلها تنبع من العنصرة ، نقطة أنطلاق الحياة الكنسية ، ولكن فرنسيس يعطينا "الإنجيل كما هو " .
" الإنجيل ، وقانون القديس فرنسيس الذي يقول الإنجيل ثانية : هذه هي الأغنية الجديدة لروح الحب . أن أكون صداها " (ماري دولاباسيون، يكلمني في قلب كنيسته، عدد 293 - 15/12/1888) .
كلمات ماري دولاباسيون ، وهي بمثابة وصيتها ، تتغذى من تأملها ، حيث، وخاصة خلال آخر رياضة، هي مدفوعة لتعميق هذه الفكرة ، التي هي نتيجة تأمل طويل بدعوة الله للرهبنة :
"تعال يا روح الحب . أرغب فيك في داخلي . أرغب بأنسكاب جديد لملكوتك . في الكنيسة ، في رهبنة القديس فرنسيس وفي الرهبنة، ... في كل مكان ، في كل شيء ... نحن يابسون بسبب قلة الحقيقة . نحن مجروحون بسبب قلة المحبة . تعال يا روح القدس وأرجع السلطة الحقة ، ... رسالة مريم ، هي العنصرة الثالثة . الأولى هي عنصرة تأسيس الكنيسة ... الثانية هي عنصرة فرنسيس السيرافيمي ... الثالثة هي عنصرة عصر من حبل بها بلا دنس ... لمريم ، العمل على الأرض . ملك القدرة الحقّة ... تجدد الحقيقية والمحبة . القدرة الحقة هي قدرتك ، أيها الروح الإلهي، والمرأة ذات القدرة الحقة ، هي التي ظللتها ، مريم النقية،... تلك التي أعطتنا المخلص ، المحبة المتجسدة . "
هي المحبة التي تظهر قدرتها في مسيرة طويلة من "إخلاء الذات " الذي يجرد دائمـًا أكثر : يسوع الذي تجسد فتخفى في الإنسانية ، ثم في الإفخارستيا ، لكي يرجـّع للأب ، في اليوم الأخير كل الخليقة المجمّعة في المحبة .
2- العنصرة الحيـّة : "نعمة الإنجيل بكل غناها "
بما أن ماري دولاباسيون سلمتنا الموهبة الروحية كعنصرة ، لنحاول لبرهة أن نلتقي بالروح بين التلاميذ ، وأن نشعر بردات فعلهم ، بعد اختفاء يسوع ، إذ أخفى مجده بقليل من الخبز والخمر حين قام من الأموات .
في أورشليم ، زمن الإنتظار
- أ- عاش التلاميذ لتوهم خبرة صقلتهم بعد أن تبعوا هذا "الرابي" كالمسيح المدعو لتحرير شعبهم ، تركوه تدريجياً بسبب عداوة المسؤولين . وعندما صلب ، الرسل بذاتهم تركوه ؛ وإذ بعد ثلاثة أيام ظهر لهم حياً، عدة مرات، ذكرّهم بتعاليمة عن "ملكوت الله " فعادوا يرجون، ثانية، بأنه "سيُعيد المـُلك لإسرائيل " (أعمال الرسل 1/6) . ولكي يفهموا في آخر الأمر، كان عليه أن يختفي كلياً ويترك المكان كله للروح القدس ، كما كان قد قال لهم : أنه خير لكم أن أذهب ؛ فإن لم أذهب لا يأتكم المؤيد . أما إذا ذهبت فأرسله إليكم (يوحنا 16/7) ، من لدن الآب (يوحنا 15/26) . وعلى جبل الزيتون حيث كانوا قد رافقوه ، أوصى الأحد عشر الا يغادروا أورشليم : فبعد أيام غير كثيرة "ستعمدون في الروح القدس " الذي سيلبسهم القوة ليكونوا له " شهوداً ... حتى أقاصي الأرض ". ولما قال ذلك ، حـُجب عن عيونهم (اعمال الرسل 1 / 4 – 5 و 7-9)
- ب- فما عساهم أن يفعلوا سوى أن يطيعوا وينتظروا الروح القدس معاً ؟ رجع الأحد عشر إلى البيت ، فصعدوا إلى العليّة حيث اعتادوا أن يجتمعوا (اعمال الرسل 1/13) : فالعليّة، وكأنها لهم، قاعة المجلس أو السينودس ... غالباً ما نتخيل العشرة أيام هذه " كتمارين روحية " : الرسل في خلوة في العليّة ، و مريم بينهم ينتظرون فنتخيلهم ينتظرون بالتأمل والصمت العميق . ولكن بالواقع ، " رجعوا إلى أورشليم وهم في فرح عظيم . وكانوا يلازمون الهيكل يباركون الله " (لوقا24/52-53) . " وكانوا يواظبون جميعاً على الصلاة مع بعض النسوة ومريم أم يسوع ومع إخواته " (أعمال الرسل 1/14) .
وحول هذه الجماعة الصغيرة (التي تذكـّر- ماعدا النساء - جماعة عرس قانا في يوحنا 2/12) ، نرى تلاميذ آخرين. وفي أحد الأيام ، حيث كان 120 شخصاً مجتمعين، اقترح بطرس أن يكمل عدد الرسل : أنه متّيا الذي سيكون الثاني عشر . فما عدا الصلاة ، ما كان عساهم أن يفعلوا، سوى أن يعيدوا في قلبهم ذكرى من غاب عنهم، يعيدوا ذكراه الحيـّة ، وأن يتـشـاركوا بها ؛ فهكذا ابتدأ : من جهة، التقليد الشفهي ، الذي سيعطي لاحقاً " الأنجيل " وفي جهة أخرى ، الجماعة الأخوية التي ستسلـّم هذا التقليد : " شعب من الكهنة ، والأنبياء والملوك".
+ يعيدون إلى ذاكرتهم خاصة الإرث الذي تركه يسوع قبل أن يموت :
- حضوره الخفي عندما يجتمع باسمه إخوة وأخوات (متى18/20) ؛ حضور سيكون محسوماً في الخبز والخمر في الإفخارستيا إلى حد أن يصبح غذاءهم . وبالتالي ، حضوره الخفي أيضاً في كل واحدة وكل واحد ، خاصة الأكثر صـِغراً ، والمتألمين ، والضعفاء ، ... (متى25/40)
- وصية: أن يحبوا بعضهم بعضاً " كما هو أحبهم " (يوحنا 13/34) ؛ وهو أحبهم حتى أنه مات وهو يغفر (متى26/50 ولوقا 23/34)
- مثل : أن يخدموا بعضهم بعضاً ، مثله تماماً هو الرب والمعلم " إذ غسل أرجلهم " (يوحنا13/14)
- وعد: خصوبة الحب . " أنا أخترتكم وأقمتكم لتذهبوا فتثمروا ويبقى ثمركم ، فيعطيكم الآب كل ما تسألونه باسمي" (يوحنا 15/16-17)
+ يعيدون إلى ذاكرتهم أيضاً توصياته الأخيرة :
- الجماعة تكون شاهدة من خلال حياتها :
" إذا أحب بعضكم بعضاً ، عرف الناس جميعاً أنكم تلاميذي (يوحنا13/35). كلّهم متساوين بالكرامة، كإخوة وأخوات ( متى 23 / 8 و 11). فبالفعل ، لهم آب واحد ويسوع هو أخوهم دائماً (يوحنا20/17)
- وعليهم الآن أن يعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين (مرقس 16/15) ؛ لكي يستمروا بتأوين رسالة يسوع : " جمع شمل أبناء الله المشتتين" (يوحنا11/50-52) . إنها رسالة كرسالة المعلّم ، لا تكون دائماً سهلة وبإمكانها أن تكون خطرة : "ما كان الخادم أعظم من سيده " (يوحنا15/20)
+ فيتذكرون المثل : " من منكم ، إذا أراد أن يبني برجاً ، لا يجلس قبل ذلك ويحسب النفقة ، ليرى هل بإمكانه أن يُتِمَّه ؟ (لوقا14/28) . يحلـِّلون الوضع قليلاً . – هذه الجماعة الأولى من التلاميذ ليست متجانسة : هل ذكرى المعلم هي كافية لتهدي الخلافات ؟ - وأيضأ هذا التبشير باسم مسيح فقير ، مصلوب وقائم من الموت !!! من سيصدقهم ؟؟ ... ولكن يسوع قال لهم " أن لا يضطربوا : سينالون مؤيَّداً ومعزياً ، الروح الذي رافقه هو دائماً.
وأيضـًا، من هو هذا " الروح الذي ينبثق من الأب " والذي سيرسل إليهم (يوحنا 15/26) . " ليرشدهم إلى الحق كله" الذي لا يطيقون حمله بعد؟ (يوحنا16/12-13). وحتى ، من هو يسوع هذا ، الذي هو في آن - بحسب أقوالـه – ابن الله وابن الإنسان ؟ وعندما سيكون عليهم أن يعلنوا البشرى السارة لليهود ، ماذا سيقولون لهم ، وإيمان اليهود راسخ رسوخـًًا شديدًا بالله الأحد ؟
+ مريم أمه هي هنا ، هي التي لم تشك أبداً فيه ، والتي وحدها رافقته من البداية حتى النهاية ، "من المغارة حتى الصليب " . أعطاها أماً للكنيسة الناشئة . وحدها، تستطيع أن تساعدهم أن يوضح لهم قليلاً اللغز عن أصل القائم من الموت ، أي هويته : فالله طلب ، منها أن تحمل وتلد للعالم أناسـًا بقدرة روحه القدوس فقط ، وكلمته ، وابنه (لوقا1/35)
- إنساناً ، هو بالملء ، هو ابن العذراء الذي تنبأ عنه أشعياء (7/14) . هو الذي كان عليه أن يكلـّم الناس عن الله ، تمتم ككل طفل أولاً ، ثم تعلّم الآرامي تدريجياً ؛ مرّ بكل مراحل النمو الإنساني
- بالتبني ، هو ابن يوسف بالحق ، إذاً الوريث لسلالة داود ، المسيح الذي أعلن عنه سابقاً (لوقا1/32-33؛ اشعياء 9/5-6) .
- هكذا ، أحداث كثيرة في حياة المعلم، ابتدأت تتبلور؛ فتساعد على الفهم كيف أن الروح القدس كان منذ البدء دائماً معه. فمنذ أن زارت مريم نسيبتها ، وكان ابن الأبدي مخفياً فيها ، الروح الذي كان قد مسحه ، أشرق على اليصابات ، وعلى الطفل الذي كانت تنتظره، وعليها هي . والوالدتان العتيدتان تنبأتا ؛ وبعدهما بقليل ، تنبأ أيضاً زكريا الكاهن والأب الغير مؤمن . فكانت منذ حينها "عنصرة" صغيرة منزلية ، دون نار ولا دوي.
- وعندما أصبحت أم الكنيسة ، كان بوسع مريم ، أن تعلـّمها كيف يولد جسد المسيح بأكمله في الصمت ، في صبر النبت الطويل ، وحميميـّة الروح. وكما أنه فيما مضى ، أصبح ابن الله فيها أبن آدم من خلال الروح ، هكذا الآن، تدعو بصلاتها، ذاك الذي من خلاله، يقدر أبناء البشر أن يصيروا أبناء الله ، على مثال الابن .
العنصرة على أورشليم : ولادة الكنيسة
بعد عشرة أيام ، حدث ظهوران إلهيان متتاليان . كما في حوريب ، حيث الأبدي أظهر ذاته أولاً لموسى في العلـّيقة المشتعلة ، ثم للشعب بأجمعه ، في دوي " أصوات " العهد الأول (خروج 3/19-20 و24) ، فالله المحجوب في خليقته ، يظهر في العناصر الطبيعية المنظورة والمسموعة وبالكلمة المنطوق بها.
-أ- ينال التلاميذ " الهبة " الموعود بها . يلاقيهم الله وهم مجتمعين كلهم في صباح العنصرة اليهودية ، في البيت الذي كانوا فيه ، كعائلة؛ فمن الآن وصاعداً، عليهم أن يبحثوا عنه في الحياة اليومية . من خلال ظهور إلهي ، سمعي وبصري ، يأتي الروح – الذي يظلل ويحيي الكون – ليثبت بالإيمان ، و " يلحم" معاً ، ويقوي الشهود الأولين المرسلين إلى العالم. انطلق، أولاً، من السماء، دوي كريح عاصفة يملأ جوانب البيت: وهذا رمز واضح لهم، ففي لغتهم، كلمة واحدة "رواخ "، تعني " هواء " و "روح " (أعمال الرسل 2/1-2) وبعد السمع، الرؤية : لمبشري الإنجيل العتيدين هؤلاء " ظهرت ألسنة كأنها من نار" (أعمال ارسل 2/3) النارالمرفقة بالكلمة هي رمز أخر للروح ( الرجوع إلى أرميا :" كانت كلمتك في قلبي كنار محرقة" ؛ ارميا 20/9) ، وتلميذي عماوس ، قلبهما متقداً في صدرهما حين كانا يسمعان يسوع (لوقا24/32) . أنقسمت هذه الألسنة فوقفت على كل منهم ، فأصبح كل واحد "علـّيقة مشتعلة " تنبثـق منها الكلمة :" فامتلأوا جميعاً من الروح القدس"، كل واحد يتلقى الكلمة ذاتها ، بما هو عليه. وفي الوقت عينه ، هذه الكلمة تتخطاهم : يعلنون "عجائب الله" بلغات غير لغتهم، ويطلعون السامعين بوحي إلهي لبـِسهم كلياً (أعمال الرسل 2/3-4 و11) . ولم يعودوا خائفين ، سيكون الروح معهم في الأوقات الخطرة و الصعبة ، كما كان قد تنبأ يسوع : "في تلك الساعة ... روح أبيكم يتكلم بلسانكم" (متى 10/19-20)
- ب- انتشرت "الهبة" في الأرجاء ، محدثة إعلان أول للبشرى. فكان هناك يهود كثر ودخلاء من الشتات. جذبتهم الحركة حول البيت ، وكل واحد سمع تمجيد الله بلغته! فلـّقوا على الحدث... بطرس الحاضر مع الأحد عشر الأخرين ، يستفيد من تجمع ليشرح إنطلاقاً من الكتب ، بأن تمـّت الآن الوعود التي وعد بها الله في الماضي ليوئيل وداود :"يسوع ، أقامه الله ، ونحن بأجمعنا شهود على ذلك ... فقد نال من الآب الروح القدس الموعود به فأفاضه ، وهذا ما ترون وتسمعون." وبلهجة جدليـَّة ، تعكس الزمن الذي كتبت فيه أعمال الرسل ، يزيد " فليعلم يقيناً بيت إسرائيل أجمع أن يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم قد جعله الله رباً ومسيحاً ." (أعمال الرسل 2/5-14 و32-33 و36)
- ج- تفطـّرت قلوب المستمعين فسألوا ، ما العمل. فيدعوهم بطرس إلى أن يتوبوا ويعتمدوا لينالوا هم أيضاً عطيـّة الروح القدس (أعمال 2/38-39) . وهذه المعمودية ليست في حينها مثبـّتة في إطار ليتورجي بعد. فعندما تعمـّد يسوع في الأردن ، حوّل مسبقاً معنى المعمودية التي ستنال باسمه (لوقا3/21-22) . ستقود هذه المعمودية إلى أبعد من التوبة، ستقود إلى الولادة بالروح (يوحنا 3/1-8) . فكثيرون اعتمدوا في يوم العنصرة هذا ، وفي الأيام التالية أيضاً ، لـِما رأوه من معجزات تتم على يد الرسل .(أعمال الرسل 2/41-42 و3/1... و5/15-16). فأصبحت منذ ذلك الوقت، جماعة الشهود العيان، منفتحة على آخرين ، وانتشرت في المدينة ، فهي لا تزال تمارس الطقوس الدينية اليهودية ، وفي الوقت نفسه، تتبع المسيح القائم من الموت، وتحتفل به في جماعات صغيرة عائليـّة . فلزم تكاثر عدد الإخوة والآخوات بداية تنظيم من قبل الرسل ، مع تأسيس الشمامسة . ولكن سرعان ما يسبب نجاح المجموعة أعتراض المجلس . وبقوة الرب سيخرج الرسل، في أول الأمر، سالمين من ذلك، ويشهدوا بالقائم من الموت حتى أمام المجلس .
"شلال من العنصرات " : توسـّع الكنيسة .
-أ- بعنصرات كثيرة صغيرة، ستلد جماعات ، جماعات شقيقة لتلك ، أساسها دائماً مبادرة الروح ، وتكون باتحاد مع الرسل (أعمال الرسل 8 و10) . بعد وقت قليل ، وبسبب اضطهاد أوْدَ بحياة اسطفانوس ، تشتتت الجماعات ، في اليهودية والسامرة أولاً ، ثم في مناطق أبعد فأبعد ، فانتشرت الكلمة . (اعمال الرسل 6- 8) فانفتحت الكنيسة حتى على المحيط الوثني ، بفضل شاول خاصة، شاول الذي أصبح بولس ، والذي أرسل إلى آسيا من قبل كنيسة إنطاكية (أعمال الرسل 9...). سيكون لهذه الجماعات الجديدة ، ممارسات طقسية مختلفة عن ممارسات الجماعات من أصل يهودي ، ولكن سيكون لهم أيماناً واحد ، ومعمودية واحدة باسم يسوع، وموهبة الروح الواحدة. وستـُحل المشاكل بين الجماعات، ويكون بطرس المرجع الأخير لذلك، أو جماعة الرسل والشيوخ، المجتمعين حول بطرس في أورشليم . فعاشت الكنيسة الجامعة ، التي هي جماعة الجماعات ، " أول مجمع" لها ، دون أن تكون برمجة له . فكذلك، شيئاً فشيئاً ، تأسست بنية لازمة بين الكنائس ، مرجعيتها الرسل المتحدين ببطرس (أعمال الرسل 11/1-18 و15/1-34).
- ب- في كل مكان ، الشهادة الرسولية ثم إعلان البشارة ، هما مرتبطان بجماعة تشع في الجوار (أعمال الرسل 9/1-31 ؛ 10 ؛ 11/25-26؛ 13/1-3 ، 19). وكما في بداية الكنيسة ، الروح القدس هو دائماً حاضر، بطريقة تزداد خفية يوماً بعد يوم، ولكنها ملموسة . يوزع المواهب اللازمة لبناء جسد المسيح الكامل ، بناءً تدريجياً (أفسس 1/22 وقولسي 1/18-20)، وهو عمل مشترك ما بين التلاميذ والروح . وبما أن لا أحد كامل ، التوبة والمصالحة لازمتان لتثبيت الوحدة (غلاطية 2/11-16) . ولكن العائق الأكبر هو النقص بالحقيقة والمحبة (أعمال 5/1-11). شيئاً فشيئاً ستكوّن الجماعات تقاليدها الخاصة ، أساسها شهادات الرسل الأولين ، والخبرات المعاشة في الجيل الثاني . فهذه التقاليد مع تقاليد البدايات ، ستسمح لاحقـًا للإنجيلين والكتـّاب الملهمين، بأن ينصّوا ما سيصبح العهد الجديد (لوقا 1/1-4).
- ج- مرجعية كل الجماعات ومثالها تبقى مرجعية الشهود الأولين . (أعمال الرسل 1/1-2 و2/41). فلها عناصر مميـّزة مشتركة (أعمال الرسل 2/42-47 و 4/32-35 و 5/12-14) . ففيها الجميع متساوون ، مهما كانت خِدَمهم ، مجتمعون في الصلاة والاتحاد بحضور المسيح السرّي ، حضور بثلاثة أوجه : في الكلمة المصدقة من الرسل ، في العشاء الإفخارستي ، وفي تبادل الخيرات بين الإخوة بحيث لا يبقى أحد جائع. والروح القدس، الذي يظهر في قلب هذه الجماعات من خلال هباته، ومن خلال إشعاع الجماعة على الخارج، يشير إلى الوقت المؤاتي لكي تعلن فيه البشرى بطريقة صريحة.
3- في كنيسة العنصرة اليوم، عيش التخلي الإنجيلي"
زمن العنصرة يمتد من ولادة الكنيسة حتى عودة الرب (إنه الزمن العادي في الطقس اللاتيني ). إن حج الكنيسة مع الروح القدس هو في المسيرة نحو اللقاء مع المسيح الذي سيظهر كلياً. تبقى الجماعة المسيحيّة الأولى، للكنيسة، ولكل خليـّة فيها، حتى اليوم ، ولنا نحن أيضاً ، المثال الذي لا يشيخ ، وإنما معاش بطريقة دائماً جديدة (الفرائض الأولى المادة 11 ؛ والفرائض الحالية المادة 19)
الإنتظار ، كزمن المجيء في الليتورجيا
كما في أورشليم ، في الأزمنة الأولى ، لا نستطيع عيش حضور الرب المخفي عن أعيننا ، وإنتظار اللقاء به بالمجد، إلا كزمن المجيء ، في حميمية القلب المسكون بالروح القدس.
- أ- والحال أن في العالم كما هو، وكما يتطوّر باستمرار وبسرعة في كل القارات، تعيش الكنيسة من جديد ، ونحن معها، " خبرة تطهيرية "، نتائجها العملية كثيرة . فالرجال والنساء هم دائماً مستعجلون ، مأخذون ومتداخلون بالتقانيات الحديثة، وبالعولمة، ولا رجعة عن ذلك ، ولو أن هذا التداخل هو رائع في بعض نواحيه . فهم في خطر بأن يبقوا سطحيين على حساب كل العالم والخليقة ، "مهاجمين" من الضجـّة والصورة . وبإمكان النمو الأقتصادي الذي يدفع إلى الأمام هذا الجري ، أن يتأثر من جراء ذلك : فيحب أن نعالج أكثر ، والضغط أكبر في العمل ، ورؤساء العمل يشتكون من عدم مقدرة العمال لتفكير بنـّاء . فالأقتصاد والتكنولوجـيا ، والازدهار المادي، يبعد إلى مستوى ثانوي علم الإنسانيات ، والثقافة والحكمة . وعدم الأتزان هذا لا يساعد حياة الروح .
- ب – ويحدث أن الحياة الرهبانية هي بذاتها ، تتبع هذه الوتيرة، وتضيـّع دورها الخاص، الذي هو " خدمة نبوية" في قلب التزاماتها. تذكـّرنا مريم، والتلاميذ الأولين معها ، أن الإنجيل لا يستطيع أن يتجسد ، ولا الكنيسة تستطيع أن تولد، دون زمن الإنتظار بالصلاة والخشوع ، والإصغاء للروح القدس ، والتعمـّق بالكتاب المقدس ، وقراءة الحياة، والمشاركة بالخيرات الروحية . ووثائق مجامعنا العامة الأخيرة، تدعونا لذلك؛ ويبدو أن جهود حقيقيـّة تبذل، تقريباً في كل مكان، في سبيل الطاعة لـِتوجيهاتها . إنما الصعوبات تستمر ، بأغلب الأحيان، بسبب التغيرات الجارية. فالألكترونية، مثلاً، بدّلت جذرياً طريقة العمل. بسـّطت، وسرّعت ما يجب فعله لعمل ما ، ولكن لم تلغِ شيئاً من الأفعال هذه التي وجب فعلها . هكذا شخص واحد ، بدل أشخاص عديدة ، بإمكانه أن يقوم جيداً بالعمل ، ولكن ثمن ذلك هو أن يكون لـِهذا الشخص كفاءات عديدة، والثمن أيضاً، تعب وضغط يتزايدان . أو، نوع آخر من التصرّف : بما أن الوقت المطلوب للعمل هو أقل ، يأخذ الشخص على عاتقه، _ أو يـُطلب منه ذلك – عدّة أعمال . أليس من المفروض أن يـُبحث عن شروط تستطيع اليوم أن تساعد على توازن في الحياة ؟ وأليس ضروري أن تنشأ على استعمال متوازن لـِوسائل الأتصال السمع بصرية؟
- ج – من ناحية أخرى ، لا تستطيع حياة الإيمان ، المؤسسة على الكلمة المعمّقة في الروح والمشارك بها ، كما نرغب بها ، أن تتغذى فقط من التقوى والإرادة الحسنة ؛ فلكي لا تقع في الروتينية ، أو أن تصبح تقليدية ، أو أن تقع في التفسيرات المغلوطة ، ولكي نعرف جيداً، وأن نكون " مستعدين لأن نرد على ما يطلب منا دليل ما نحن عليه من الرجاء " (1بط 3/15) ، تحتاج حياتنا إلى دراسة وطرق قراءة الكلمة المناسبة لكل واحدة . أرادت ماري دو لا باسيون ، أن تذكـّي وتعمـّق أخواتها أيمانهن بقراءة كتاب " دسم " أقله مرة في الأسبوع ، لأنهن مرسلات . مذّاك الحين ، الوثائق والطرق تطوّرت كثيراً . فكيف نستعمل ما هو متوفـّر لنا، لكي نعرف أحسن الكتاب المقدس، ونثبـّت أسس أيماننا . إ،ن بعض العلمانين يتفوّقون علينا في هذا المجال.
الحياة الأخوية ، كشهادة أوليـّة.
-أ – رسالة الإنجيل ابتدأت تنتشر انطلاقاً من شهادة الشهود الأولين في وحدتهم بالروح القدس. من ناحية العلاقات ما بين الأشخاص، يجد عصرنا بصعوبة الاتزان بين المجموعة والشخص بفرادته. في الشمال كما في الجنوب ، في الشرق كما في الغرب ، الأوساط التقليدية تتوق إلى أن تميـّز النزعة إلى الجماعة، والعيش بحسب طرقها ، وغالباً ما يكون هذا خانقاً، والأوساط الحديثة تفضل الفرديـّة. وكلاهما يولدان العنف – وانصهار الشعوب، القائم بسبب حركات النزوح، يـُثير هذه الميول .
فحب أخوي صادق معاش في جماعات كنسيـّة، بإمكانه أن يكون شهادة قويـّة في هذا العالم ، شهادة سعادة عيش التناغم في الأختلاف ، والمشاركة للمواهب ، في قلب "ملكوت الآب". وهذه الشهادة ، إذ أنها علامة وخدمة نبويـّة، هي أحد العناصر الأساسيـّة في الحياة الرهبانية .
- ب - كتبت ماري دولا باسيون عنوان المادة 11 في الفرائض الأولى : " المحبة والتواضع " (وبتعبير أخر : التخلـّي) ؛ وكمّلت ، مستشهدة بأعمال الرسل : لنفحص ذواتنا كلـّنا، غالباً، انطلاقاً من هذه الكلمة : " كانوا قلباً واحداً ونفساً واحدة " (أعمال 2/46 و 4/32) لتجتهدن أن تحقـّقن في عائلتهن الصغيرة ذلك ، وإن يمارسنه أيضاً في علاقاتهم مع العالم (...). وأخيراً ، ليجعلهـن تواضعهن نافعات للجميع ، وأن لا يكن حملاً لأحد ، متذكرات بأن المعلم الإلهي ، جاء ليخدم لا ليُخدم". في المادة 16 ، أشارات إلى الوحدة الأخوية ، المتخطيّة اختلاف الجنسيات، والتربية ، والعائلات والعادات . والفصل 3 في فرائضنا الحاليـّة، ومنذ السطور الأولى، يربط بأعمال 4/32 ، جماعاتنا الأخوية ، "خليـّة حيـّة في الكنيسة (...) في خدمة إعلان البشارة " مادة 19 . والفصل الأول يصف الرهبنة كـ "أخوّة دولية يجمعها الروح القدس " ، حيث كلـّنا ، في تنوعـّنا ، وباتحاد مع الرئيسة العامة ، مسؤولات عن رسالتنا المشتركة : الإعلان والتمهيد لأكتمال الملكوت الذي تتصالح فيه كل الشعوب وتجتمع في شعب الله الواحد (مادة 7) .
-ج- الحياة الأخويـّة، بتعدد الجنسيات والثقافات، هي جزء من كياننا (ADN)، في أساس صبغتنا: فقد أرادتها ماري دولا باسيون منذ البدء . فإن لها معنى روحي ورسولي محدّد . لا نقدر أن نلغيها دون أن نغيـّر بالعمق هويـّتنا . على كل حال ، بنظر الناس ، أنها دون شك، أحدى ميزات عائلتنا الرهبانية، الأساسية . عمليـّاً ، أنها مدرسة جيـّدة للإصغاء ، والإنفتاح على الآخر ، والمحبة الحقة ، والتواضع ، والتقشف . تفترض أن نـكون متعددات اللغات . فيها كد وتعب ، ولكن أيضاً غنى متبادل؛ تفتحنا على ثقافات ومفاهيم أخرى ، فتجعلنا نستشف " نعمة الإنجيل بكل غناها " . وأفضل معلم في هذه المدرسة هو الروح القدس . أننا نحتاج لبعض من "ألسنته النارية" ، في طريق التخلي هذا ، الذي يجعلنا نتحد قليلاً بالتخلي الذي عاشه " الكلمة " ، مجسـّداً رسالته في إحدى ثقافاتنا الإنسانية ، مع كل محدودياتها. وتفترض أيضاً " جماعة الجماعات " هذه ، التي ميـّزت الكنيسة الأولى ، وأزالت الحواجز الخاصة بعيش بعض التخليات ، من أجل بناء الجسور والمساهمة بأن يكون شكل أخر للعولمة . إنه شكل من أشكال إخلاء الذات : أن لا تنغرس الرهبنة بطريقة حصرية في أية ثقافة ، وأن لا تركز على أي نوع من الخدم ، يجعل الآخرين قادرين على تفوّق أفضل بالعمل في الميدان الرعائي والمهني . اختصاصنا هو أن نساهم بإنشاء أو اعادة إنشاء الروابط الأخوية حيث تدعو الحاجة : لا نقدر أن نتخصص في نفس الوقت ببناء الجسور والكاتدرائيات! إننا نحتاج لبعضنا البعض.
من الشهادة إلى الإعلان والتلاقي والمشاركة
-أ- طريقة الحياة هذه تحضر أيضاً الشخص للقاء ولفهم "الأخر ". إذا ما عشناها في الحقيقة والمحبة ، وفي دينامية المصالحة كما في العنصرة الأولى ، فهي تذهل وتثير الأسئلة : " لما العيش كذلك ؟ كيف يكون هذا ممكناً ؟"
ولكن الوضع اليوم لم يعد كوضع بداية الكنيسة . والأجوبة التي بإمكاننا إعطاءها ، منوطة بالأزمنة والأوقات ، بالأشخاص وثقافتهم الدنيوية والدينية ، وبتاريخهم : إن نفس الكلمات أو التعابير، لا تعني دائماً نفس الشيء في كل اللغات والعقليّات ؛ هذا دون أن نأخذ بعين الأعتبار الأحكام المسبقة ، أحياناً . فإذا ما أتخذنا العظة التي ألقاها بطرس ليهود الشتات بحسب أعمال الرسل ، فليس بإمكانها أن تستخدم كنموذج ؛ فإذا ما اتخذت كما هي فبأمكانها أن تفهم اليوم كحث على العداء لليهود ، وهذا مثلاً لخطر القراءة الأصوليـّة للكتب. لم يتأخر بطرس نفسه بأن يختبر بأن الله حاضر في الأماكن الأخرى حتى بين الوثنين ، وأن الروح القدس يسبق كلمة التبشير. ويسوع نفسه، تعجب من ايمان ومحبة الوثنيين اللذان يفوقان محبة وإيمان اليهود : قائد المئة ، والمرأة الكنعانية ، والسامرية ........
الإيمان هبة ، والله سيـّد هباته . فقبل أن تكون الرسالة رسالتنا ، فهي رسالة الابن والروح ، اللذان يعرفان خفايا القلوب . علينا أن نميـّز بالروح ؛ إن الروح هو الذي يوحي تدريجياً ما يجوز قوله لشخص أو لآخر ، في حينه. ويمر هذا التمييز أيضاً من خلال إرشادات السلطات الدينية أو استشارة الأشخاص الأخصائيين .
- ب – ووجب علينا أيضاً أن نتحضّر تحضيراً مختصَّاً لحوار الإيمان مع " الآخر" ، أي آخر : المسيحي الغير كاثوليكي ، المؤمن من ديانة أخرى ، الغير مؤمن ، المعمد دون تبشير أو الذي فقد الإيمان. في موضوعه خلال اجتماع الرؤساء العامين: "الحوار بين الأديان والتنشئة : أية تحديات؟؟ " ، أكد الأب خوسيه رودريغز كربالو ، الخادم العام في الرهبنة الفرنسيسية : لا نقدر نحن كمكرسين ، ألا نلتزم في هذه الطرق .(...) الحوار بين الديانات ، ككل حوار ، هو بعيد عن السهولة . فلهذا السبب ، واحتراماً للأخر ، يجب ، أن يكون هناك " استعداداً مناسباً اثناء التنشئة الأبتدائية والتنشئة الدائمة ، وكذلك بالدرس والبحث " ، (الحياة المكرسة 102) . فلكي يكون الحوار بين الأديان كما يجب أن يكون وان يجيب إلى طبيعته، فإنه يتطلب : معرفة عميقة للمسيحية وللديانات الأخرى ، مصحوبة بإيمان راسخ ، ونضوج إنساني وروحي كبير " فالحواجز والأحكام المسبقة التي علينا أن نتخطيها هي كثيرة جداً . ولكن بالنسبة لنا نحن الرهبان ، هذا الحوار هو طريق محتوماً علينا أن نجتازه (...) التنشئة الدائمة التي نتلقاها والتنشئة الإبتدائية التي نعطيها ، ستسهلا نه أو بالعكس. فما الذي علينا أن نغيـّره في مسار ومشاريع التنشئة لكي نجيب على التحديات الكثيرة التي يطرحها علينا الحوار بين الأديان ؟ أترك لكل واحد منكم العمل على إيجاد الجواب . وأعتقد أنه حتى في هذا المجال ، دعوة فرنسيس هي صحيحة : "لنبدأ يا أخوتي ، لأننا حتى الآن لم نقم بعمل يستحق الذكر " (سيرة بونافنتورا الفصل الرابع عشر ) . فنقدر أن نسأل أنفسنا، إذا كنا نعمل بما فبه الكفاية في هذا المجال، إذ أن انصهار الشعوب والديانات نجده اليوم في أي مكان، وكلنا معنيـّات به، (ولو كان فقط لمساعدة المسيحيين بأن يروا بوضوح أكثر).
-ج- إن حوار حقيقي يسمح باللقاء بحضور الله في "الآخر"، حتى الغير مؤمن، دون الوقوع في التوفيقيـّة أو اللامبالاة، ويسمح بإغناء الإيمان الخاص. إن المجمع الفاتيكاني الثاني، قد ألزم الكنيسة في هذا المسار، حتى لو إن كثر فيها لا يظهرون حماسـًا كبيرًا لهذا الموضوع. إن اكتشاف "بذور الكلمة" المنتشرة في العالم، وحضور الروح في كل مكان، وحب القريب، والبحث عن الحقيقة حتى عند الغير مؤمنين ، كل ذلك بإمكانه أن " يبشرنا ". فلقاء فرنسيس ، في البساطة والصدق ، والتواضع ، مع السلطان في دمياط يبقى لنا وحياً لنتبعه ، كم أنه أوحى "بلقاء اسيزي" سنة 1986 واللقاءات التي تلت . يسوع ، لم يدع كل الذين آمنوا به أن يلتحقوا بمجموعته الصغيرة. فالممسوس في ناحية الجراسيين (في بلاد وثنية) ، الذي خلـّصه، والذي كان يريد اتباعه ، الزمه بأن يعود إلى بيته وذويه ، ليجعل عجائب الله تعرف بينهم (مرقس5/18-20) . يدعو الجميع ليخلصوا في " حقيقة المحبة ومحبة الحقيقة " (متى 25/31-40) ؛ (1طيموتاوس 2/4-5 ، 4/10) . ولكن لا يدعوا الجميع للأنضمام إلى الكنيسة ، حتى ولو أُعطيَ لهم أن يعترفوا بالروح القدس أن " يسوع هو رب " ، وأن يدعو الآب " أبا " (1قور 12/3؛ روم 8/15 ، غل 4/16)
- د - حتماً يمكن أن تصدر الصعوبات من جراء ذلك . إن بعض الصعوبات تأتي من " الآخر " ؛ كما في بدايات الكنيسة ، وتستطيع أن تصل حتى الاضطهاد المـُعلن أو تقتصر على إحباط واحتقار المسحيين؛ واليوم، أقله في الغرب ، تكاثر ذلك فخارت العزائم .ولكن علينا أيضاً أن نعترف بواقعية وتواضع أن بعض أسباب الجفاء تجاه الكنيسة (أقلّه الكنيسة اللاتينية) مصدرها أيضاً وأحياناً منها ، فيوجبوها ذلك أن تعيد النظر في : تعبيرها الديني الغير مفهوم غالباً ، لاهوتها الأخلاقي النظري والمتصلّب ، ولاهوت ذات منحنى غربي فقط ومنفصل عن الحياة ، ولاهوت الخليقة الغير كافي، وهزالة لاهوت الروح القدس فيها ، والحاجة لمشاركة أوسع من قبل كل المعمدين في حياة وقرارات الكنيسة ، ومكانة المرأة ، ... إلخ. كل هذه المجالات تعنينا نحن أيضاً وتدعونا لمراجعة حياة بالكنيسة ، ودائماً بالخضوع للسلطات الكنسية ، كما فعل فرنسيس وماري دولا باسيون ، حتى في الظروف الأكثر تصادميّة في حياتهم .
الخلاصة : من عنصرة إلى عنصرة ، ورش الروح .
الورش حيث الروح يعمل في "الكنيسة التي في العالم " في زماننا، هي كثيرة وشاسعة؛ وكالجميع ، نحن مدعوات للمشاركة فيها من خلال روحانيـّتنـا الشخصية : وهذه الورش افتـُتِحت ، بمعظمها ، في المجمع الفاتيكاني الثاني، بعد ركود طويل في الكنيسة ، فسببت بانقلابات في قلب الكنيسة، فبدأت هذه الانقلابات فيها إعادة بناء ، بعيد من أن يكون قد انتهى . وهذه حالة طبيعيـّة ولكنها غير مريحة. نرغب بأن تتسارع الأشياء لكي نعود إلى حالة آمنة أكثر، فنرتاح من البحث والتفكير. ولكن الأمر ليس كذلك. الروح القدس ومريم يذكراننا بأن الولادة الجديدة لكل البشرية في جسد المسيح الكامل، يلزمها فترة "حمل" طويلة ، وستتم فقط عندما سينجح أخيراً تخلي الرب، بـِجعل الحب ينتصر ، حين عودته بالمجد. فالأنتظار بالكنيسة ، مع الكد والتقلبات ، هو زمن مجيء سعيد، كما نشيد " تعظم نفسي الرب " ، عندما يكون معاش كدعوة من الآب، كاتحاد بـ نعم المسيح، واستسلام للروح الذي يعرف " أين يقودنا" : من نمو إلى نمو ، من أكتشاف إلى اكتشاف حتى " إكتمال الملكوت ، الذي تتصالح فيه كل الشعوب وتجتمع في شعب الله الواحد ".( الفرائض مادة 7) .
ترجمة الأخت نجاح برهوش ف.م.م
|