في العصور الوسطى، لم تكن " التوصيات " تنبيهات، بل كانت تقدّم نصّاً أو فكرة من الكتاب المقدّس، وعلى ضوئها تعرض التطبيق العملي. لذلك، فتوصيات القدّيس فرنسيس تعكس رؤيته الكتابية، وكيفية ترجمته إياها في الحياة اليومية.
أسلوب التوصيات بسيط جدّا، والمنهجية التي يعتمدها فرنسيس، هي وضع الأضداد، الواحد بالقرب من الآخر، لكي يصبح الكلام أكثر تأثيراً، مثلاً: الخير والشرّ، الفضائل والرذائل...
هذه التوصيات هي قاعدة لحياة مسيحية، وهي تحمل أسس نظرته إلى الإنسان في عظمته، وفي فقره. همّ فرنسيس هو أن يزيل من قلب الإنسان، كلّ رغبة في التملّك: تملّك الأشياء، أو الذات، أو الخيرات، التي يصنعها الربّ فيه، أو كلّ أشكال السلطة، أو حتى تملّك كلمة! هي جديرة بأن يطلق عليها اسم " نشيد الصّغر ".
1- جسد الربّ
قال الربّ يسوع لتلاميذه: " أنا الطريق، والحقّ والحياة. لا يأتي أحد إلى الآب إلا بي. إن عرفتموني، عرفتم أبي أيضاً. منذ الآن تعرفونه، وقد رأيتموه." قال له فيليبس:" يا ربّ، أرنا الآب وحسبنا"؛ فقال له يسوع:" أنا معكم منذ وقت طويل، وما عرفتني بعد؟ يا فيليبس، من رآني، رأى أبي".
الآب يسكن نوراً لا يقترب منه، والله روحٌ، والله لم يره أحد قط. وبالتالي، لا يمكن أن يُرى إلا بالروح، لأن الروح هو الذي يحيي، والجسد لا يفيد في شيء. وكذلك الابن، بصفته مساويا للآب، لا يستطيع أحد رؤيته إلا الآب والروح القدس. لذلك فجميع الذين رأوا الربّ يسوع، وفقاً للناسوت، ولم يروا، ولم يؤمنوا، وفقاً للروح والألوهة، بأنه ابن الله حقاً، فهم هالكون. وكذلك، الآن، أيضا، جميع الذين يرون السرّ الذي تقدّسه كلمات الربّ على الهيكل، بيد الكاهن، تحت شكل الخبز والخمر، ولا يرون ولا يؤمنون، وفقاً للروح والألوهة، بأنّ هذا السرّ هو حقّاً جسد الربّ يسوع ودمه، الكليا القداسة، فهم هالكون، بحسب شهادة العليّ نفسه القائل: " هذا هو جسدي، ودم عهدي الجديد ...". فمن أكل جسدي وشرب دمي، له الحياة الأبدية". لذلك، فانّ روح الربّ، الساكن في مؤمنيه، هو الذي يقبل جسد الربّ، ودمه الكليّي القداسة. أما جميع الآخرين، الذين ليس فيهم من هذا الروح، ويدّعون قبوله، فإنّهم يأكلون ويشربون دينونة لأنفسهم.
لذلك، يا أبناء البشر، حتى متى ستظلّ قلوبكم ثقيلة؟ ولم لا تعترفون بالحقّ، ولا تؤمنون بابن الله؟ فها هوذا يتواضع كلّ يوم، مثلما فعل لمّا أتى من العروش الملكية، إلى حشا العذراء. إنّه كلّ يوم، يأتينا في مظهر وضيع، وكلّ يوم ينحدر من حضن الآب إلى الهيكل بين يدي الكاهن.
ومثلما أظهر ذاته للرسل القدّيسين، في جسد حقيقي، كذلك هو الآن يظهر ذاته لنا في الخبز المقدّس. ومثلما كانوا هم، بعين الجسد، لا يرون سوى جسده، ولكنّهم، بتأملهم بعيون الروح، كانوا يؤمنون بأنه الله. كذلك نحن أيضاً، نرى بعيون الجسد خبزاً وخمراً، وكلنّنا نرى ونؤمن، إيماناً راسخاً، بأنهما، جسده، ودمه، الحيّان، الحقيقيان، والكلّيا القداسة. وهكذا يبقى الربّ، دائما، مع مؤمنيه، وفقاً لقوله:" ها أنذا معكم حتى انتهاء الدهور".
4- لا يتملّكنّ أحدٌ منصب الرئيس
يقول الرب:" ما جئت لأُخدَم، بل لأَخدُم". فعلى من وضعوا فوق الآخرين مرتبة أن يفخروا بمنصب الرئاسة، كما لو أنهم انتدبوا لمهمّة غسل أرجل الإخوة. وإن هم اغتمّوا لفقدان منصب الرئاسة، أكثر من إغتمامهم لفقدان مهمّة غسل الأرجل، فهم كمن يجمعون كنزاً لهلاك نفوسهم.
5- لا يتكبّرن أحد، بل فليفتخر بصليب الربّ
تأمل، أيها الإنسان، عظمة المرتبة التي رفعك اليها الله: فقد خلقك وصنعك على صورة ابنه الحبيب، من حيث الجسد، وعلى مثاله هو من حيث الروح.
زمع ذلك، جميع الخلائق، تحت السماء، وكلّ منها، وفق أسلوبه، يخدم الخالق، ويعرفه، ويطيعه خيراً منك. فحتى الأبالسة لم يصلبوه، أما أنت، فبمشاركتهم، قد صلبته، وما زلت تصلبه، بتمتّعك بالرذائل والخطايا.
بم تفتخر إذاً؟ فحتى لو ملكت من النباهة، والحكمة ما مكّنك من كلّ علم، ومن ترجمة كلّ لغة، ومن الغوص في دقائق الأمور السماوية، لا شيء من كلّ ذلك يعطيك حقّ الافتخار. فشيطان واحد قد عرف من الأمور السماوية، وهو الآن يعرف من الأمور الأرضية، أكثر ممّا يعرف البشر أجمعون؛ مع أنّ ثمة إنساناً قد تلقى من الربّ، معرفة خاصة للحكمة السامية.
وكذلك، لو كنت الأجمل، والأغنى بين البشر، وحتى لو كنت تصنع المعجزات التي تسمح لك بطرد الشياطين، فكلّ ذلك ينقلب ضدّك، وليس لك فيه شأن، ولا يحقّ لك الافتخار بأي شيء منه.
ولكن، إليكم ما نستطيع أن نفتخر به: ضعفنا، وحملنا، كلّ يوم، صليب ربّنا يسوع المسيح المقدّس.
6- الإقتداء بالمسيح
فلنتأمل جميعنا، أيّها الإخوة، الراعي الصالح، الذي لأجل خلاص خرافه، احتمل آلام الصليب. وقد تبعت الخراف الربّ، في المصاعب والاضطهاد، في العار والجوع، في المرض والتجربة، وغيره. ولقاء هذا كلّه، تلقّت من الربّ الحياة الأبدية. فأي عار علينا، نحن خدّام الله، إذ إنّ القدّيسين قد عملوا، ونحن، بسرد أعمالهم، ندّعي لأنفسنا المجد والتكريم.
8- تجنّب خطيئة الحسد
يقول الرسول:" لا يستطيع أحد أن يقول: " يسوع هو الربّ"، إلا بالروح القدس". ويقول أيضاً: " ما من أحد يفعل الخير، ولا واحد". بالتالي، كلّ من يحسد أخاه، للخير الذي يقوله الربّ، ويفعله بواسطته، يرتكب خطيئة تجديف، لأنه يحسد العليّ نفسه، الذي يقول ويفعل كلّ خير.
9- في الحبّ
يقول الربّ: " أحبّوا أعداءكم ...." من يحبّ عدوّه حقّاً، هو من لا يحزن من جرّاء ظلم يُلحقه به هذا العدو، إلا أنّه، حبّا بالله، يحترق بسبب خطيئة تُلطّخ نفس عدوّه. ويعبّر له عن حبّه بالأعمال.
10- إماتة الجسد
كثيرون هم الذين، عندما يُخطئون، أو يتعرّضون لظلم، غالبا ما يتّهمون العدوّ أو القريب. بيد أنّ الأمر ليس كذلك، ففي يد كلّ إنسان السلطة على العدو، أي على جسده، الذي بواسطته يخطئ. طوبى، إذاً، للخادم الذي يُبقي دائماً هذا العدوّ مقيّداً تحت إمرته، ويظلّ حذراً منه بحكمة. لأنه ما دام، هو، يفعل ذلك، لن يقوى أيّ عدوّ، ظاهر أو خفيّ، على إيذائه.
12- كيف نعرف روح الربّ
هكذا يمكن لخادم الله أن يعرف إذا كان فيه روح الربّ: عندما يُحقّق الله بواسطته خيراً ما، لا يتباهى بذلك جسده الذي يقاوم دائماً كلّ خير،بل هو يعدّ ذاته أحقر الناس، وأصغرهم.
14- فقر الروح
" طوبى للفقراء بالروح، فإنّ لهم ملكوت السموات". كثيرون هم الذين يستغرقون في الصلوات والفروض، ويكبّدون أجسادهم الكثير من الأصوام والإماتات، ولكنّهم، من جرّاء كلمة واحدة يرون فيها ظلماً لأجسادهم، أو بسبب شيء يُسلب منهم، يثورون حالاً ويضطربون. هؤلاء ليسوا فقراء بالروح، لأنّ من كان، حقاً فقيراً بالروح، يُبغض ذاته، ويُحبّ من يصفعونه على خدّه.
17- خادم الله المتواضع
طوبى للخادم الذي لا يفخر بالخير الذي يقوله الله، ويحقّقه بواسطته، أكثر من افتخاره بما يقوله، ويحقّقه بواسطة سواه. يخطئ من يريد أن يحصل من قريبه أكثر ممّا يريد أن يُعطي من ذاته لله.
18- الرأفة تجاه القريب
طوبى للإنسان الذي يساند قريبه في ضعفه، بقدر ما يتمنّى أن يسانده قريبه عندما يكون هو في حال مماثل. طوبى للخادم الذي يردّ إلى الربّ الإله كلّ خيراته؛ فالذي يحتفظ بشيء لنفسه، يخفي مال الربّ إلهه، ولذلك، فما كان يظنّه له يؤخذ منه.
22- الإصلاح
طوبى للخادم الذي يحتمل التأديب، والاتهام، والتأنيب، التي تأتيه من الغير، بمثل الصّبر ( الذي يحتملها به )، لو كانت آتية منه نفسه. طوبى للخادم الذي، عندما يؤنّب، يتقبّل بلطف، ويرضخ بخجل، ويعترف بتواضع، ويعوّض طوعاً.
طوبى للخادم الذي لا يسارع إلى الاعتذار، ويحتمل بتواضع الخجل والتأنيب، عن خطيئة، في حين أنه لم يرتكب ذنباً.
24- في الحبّ الحقيقي
طوبى للخادم الذي يحبّ أخاه عندما يكون مريضاً، وغير قادر على مكافأته، مثلما يحبّه، عندما يكون معافى، وقادراً على مكافأته.
25- طوبى للخادم الذي يحبّ أخاه، ويحترمه، في غيابه، مثلما يفعل في حضوره، ولا يقول فيه، في غيابه، ما لا يقوى على قوله له، بمحبّة، وجهاً لوجه.
26- فليكرّم خدّام الله رجال الإكليروس
طوبى للخادم الذي يثق برجال الإكليروس، الذين يحيون حياة مستقيمة، وفقاً لنهج الكنيسة ... وويل لذين يزدرونهم، فحتّى لو كانوا خاطئين، ينبغي ألا يدينهم أحدٌ، إذ إن الربّ، وحده، ينفرد بحقّ إدانتهم. وبقدر ما هي عظيمة خدمتهم الكهنوتية، بمنح جسد ربّنا يسوع المسيح، ودمه، الكليّي القداسة، اللذين يتناولونهما هم أنفسهم، وهم وحدهم يوزعونها على الآخرين، فبالقدر عينه تكون خطيئة الذين يخطئون تجاههم أكبر من خطيئتهم تجاه جميع بشر العالم الآخرين.
27- الفضيلة التي تطرد الرذيلة
حيث المحبّة والحكمة، لا خوف، ولا جهل. وحيث الصبر والتواضع، لا غضب، ولا اضطراب. وحيث الفقر والفرح، لا طمع، ولا بخل. وحيث الراحة والتأمل، لا قلق، ولا تشرّد. وحيث مخافة الربّ لحراسة مدخل، لا مكان للعدوّ ليدخل منه. وحيث الرأفة والتمييز، لا انتقاد، ولا قسوة قلب. |